حياة لا تذبل

رجلٌ سئم من رتابة الحياة، وعضَّه الندم على ما مضى من عمره هباءً. أفنى سنواته، وضحّى بالغالي والنفيس من أجل مزرعته الصغيرة التي كانت له وطنًا وروحًا. غرس فيها قلبه قبل أن يغرس البذور، وسقاها بعَرقه قبل الماء، يتعاهدها صباح مساء، يراقب نموّها ومضت الأعوام، فكبرت الأشجار، وامتلأت الأرض خضرةً ونضارةً، وأزهرت المزرعة حتى أصبحت لوحة تسرّ الناظرين. شعر المزارع حينها أن تعبه لم يذهب سدى، فابتسمت له الحياة أخيرًا، لكن فرحته لم تدم طويلًا. فجأةً، دبّ المرض في مزرعته كريحٍ خبيثةٍ لا تُرى، وبدأت الأشجار تتساقط واحدةً تلو الأخرى. حاول بكل ما أوتي من جهدٍ أن ينقذها، جرّب الدواء والدعاء، لكن الأرض صمتت، والأغصان ذبلت، والحياة انسحبت من بين يديه بهدوءٍ موجِع. لم يحتمل قلبه المشهد، فقرّر أن يبتعد، علّه ينجو من قهرٍ يكاد يقتله. خرج من مزرعته حزينًا، يحمل جراحه على كتفيه، يمشي بلا وجهة، يبحث يمنةً ويسرةً عن دفءٍ إنسانيّ يرمم ما تهدّم في داخله. ورغم أنه رجلٌ ميسور، متقاعد، يملك بيتًا يأويه، ويتمتّع بصحةٍ جيّدةٍ رغم تقدّم سنّه، إلا أن قلبه لا يزال نابضًا بالحياة. أنيقٌ، مرتب، يبدو أصغر من عمره الحقيقي، ويحمل في عينيه حنينًا إلى بداياتٍ جديدة. إنه يتمنّى فقط أن يجد من يشاركه ما تبقّى من عمره… ليزرع معه هذه المرّة حياةً لا تذبل